الثلاثاء، 24 يوليو 2012

إنْ شـِفـْتْ هـَامـِلْ .. هَـمْـلـُه








إن شفت هامل همله





  
لطالما سمعت أمثالا ً لم أجد لها معنى أو مستساغا ً أستطيع فهمه وهضمه ومنها ما قد جاء بقصص ٍ عن حكمة أجدادنا وفراستهم ، وأعتقد أنّ أغلبكم يعلم قصّة النصائح الثلاث وأن ّ جملاً مقابل كل نصيحة.
كانت النصائح : قيس قبل لا تغيص ، وان شفت سهيل لا تبات في السيل ، والثالثة هي عنوان موضوعنا
 " إنْ شـِفـْتْ هـَامـِلْ .. هَـمْـلـُه " أشكلتها لتقرأ كما كنت أسمعها من كبارنا رحم الله موتاهم وأطال أعمار أحيائهم بالخير.

وأودّ أن أوضّح في البداية أن كلمة هامل هُنا لا ترمز إلى شخوص ، فهي قد ترمز إلى أي شيءٍ لا يوجد له راع ٍ ومهمل لا يُعرف صاحبه.

في طريق العودة إلى مسقط رأسي قرية راكيـــن حيث أجلس في مقدمة الباص على  "صندوق الخشب" وعلى يميني أحد شباب القرية " عبدالله " وعلى يساري عمّي سائق الباص أطال الله عمره .. وصلنا إلى منتصف القرية قرابة الساعة الواحدة ظهرا ً وتكاد لا ترى أحدا ً فيها ؛ طبعا ً عمّي مشهودٌ له بأخلاقه الحميدة وخبرته بالسياقة وذوقها وطول روحه وعدم عجلته.
لـَمـَحَ عمّي عن بعد كرتونة صغيرة موجودة في منتصف الطريق ، فخفّف السرعة وتمهّل وجنّب على طرف الطريق .
قال عبدالله : له له ..  ليش بعدّت عن الكرتونة  ؟
طلوع المرج غرشنا عنّه ، خايف من هذي الكرتونة  تطلع فوقها ؟؟
يكرر عبدالله ما قال ويطلب من عمّي أن يدهس الكرتونة بعجل الحافلة .
ينظر له عمّي نظرةَ تروّي مع هزّة رأسٍ خفيفة : يا عبدالله يا عمّو ، إنْ شـِفـْتْ هـَامـِلْ .. هَـمْـلـُه
ما بتعرف بجوز فيها عيّل من عيال القرية !؟
لم أناقش الموضوع لأنني كنت منهكا ً وجازعا ً حتى عن النقاش من حرّ الجو ودوشة إمتحانات الجامعة.
ضحك عبدالله ضحكة ً غطّت على تثاؤب باقي الركّاب في الباص ،وأخرج علبة السجائر فأخذ سيجارة " فايسروي " وأعطاني أخرى
يكفيك شرها
ما تذوق حرها
وصلنا إلى الكرتونة .
ماذا أقول لكم ؟؟ منظر يُذهل العقل.
لقد خرجت يدٌ صغيرة من الكرتونة كما تخرج النبتة من الأرض أو كما يُخرجُ غريق ٌ يدّه من أعماق البحار.
هنا أصبنا بالذهول وعلامات الدهشة تعتلي وجوهنا ونحن نسمع صوت عمّي وهو يشير بإصبعه إلى الطفل وينظر إلى عبدالله : ودّك إياني أدعس الكرتونة يا عبدالله ؟؟
مليح الي ما ردّيت عليك.
هنا نزل عبدالله من الباص وذهب إلى الطفل وأخرجه من الكرتونة وشرح له أنّ هذا خطأ " بإسلوبه الخاص طبعاً " وأخذ الكرتونة وكرتونة أخرى أصغر منها لا تتسع لرأس الطفل وصعد بهن إلى الباص.
قلت : أين ستذهب بالكرتونة يا عبدالله؟ ولماذا الكرتونة الأخرى فهي لا تتسع لأي طفل ؟
عبدالله : سآخذها إلى حيث لا يوجد أطفال بتاتاً ؟ أما بالنسبة للكرتونة الأخرى فأخاف أن يضع أحد الأطفال قطة ً بها أو طيرا ً ..
توالت الصيحات من الركّاب على ذلك الطفل ؟ وكيف له أن يفعل هكذا ؟ وأين أمّه عنه؟ بينما أيقنت أنّي بحاجة إلى سيجارة " فايسروي " أخرى.
أكاد أجزم بأنّه لو كان السائق نايف أو نبيل أو عطالله  لكانت الكرتونة سحقت بما فيها سحقا ً تحت عجلات الحافلة.
فالحمدلله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه.

* نستفيد من هذه القصّة :
أنّ الذي يجلس في مقدمة الباص يستفيد خبرات أكثر في الحياة ؛ لأنـّه يرى الطريق بوضوح ٍ أكبر وينظر للحياة من زاوية أكبر ويصل لأبعد رؤية ويدفع أجار نصف الركّاب.
وأنّ الكرتون حتى لو كان في الشارع فهو دائما ً يحمل المفاجئات
وأنّه كما سمعنا قصصاً عن أطفال وقعوا بحفرةٍ صغيرة احتاج منقذوهم لساعات لإنقاذهم ،فمن السهولة أن تجد طفلا ً في أي مكان ٍ يتّسع لحجمه.
 ودمتم بخير ....


0 التعليقات:

إرسال تعليق